حصل ما كان متوقعا بعد اقدام رئيس حكومة إقليم كردستان مسعود البرزاني على خطوته الأحادية الجانب بإجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق ومحاولات فرض أمر واقع مراهنا على الدعم الأميركي والإسرائيلي لمنع أي هجوم عسكري عراقي أو حصار تركي على الإقليم، حيث أقدمت الحكومة العراقية على تنفيذ القرارات التي اتخذها البرلمان العراقي برفض الاستفتاء ومطالبة البرزاني بإلغائه ودعوة القوات الحكومية لاستعادة السيطرة على جميع المناطق المتنازع عليها ،وفي المقدمة مدينة كركوك الغنية بالنفط ،والمعابر الحدودية مع تركيا وسورية وإيران. ونفذت عملية عسكرية أدت إلى استعادة السيطرة على جميع هذه المناطق بدءا بمدينة كركوك، فيما أعلن مجلس الأمن القومي التركي إثر اجتماع له إقفال المجال الجوي بين تركيا وأربيل وتسليم معبري الحدود مع إقليم كردستان إلى الحكومة العرقية والتأكيد أن علاقة تركيا ستكون مع بغداد وليس مع حكومة إقليم كردستان العراق،أما إيران فقد أعلنت على لسان علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى علي الخامنئي للشؤون الدولية، أن هزيمة البيشمركة في كركوك تشكل هزيمة لمؤامرة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني التي تستهدف أمن المنطقة عبر مصادرة آبار النفط في كركوك لصالح إسرائيل ورفع العالم الإسرائيلي في الإقليم بما يشكل خطراً على المنطقة.
هذه التطورات المتسارعة شكلت ضربة قاصمة لخطة مسعود البرزاني التي راهن على أن يكون الاستفتاء فرصة لتحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول: تعويم سلطته المنتهية ولايتها والتي تواجه معارضة كردية واسعة لرفضه تسليم السلطة وانتخاب رئيس جديد لحكومة الإقليم لأنه لم يعد يحق له الاستمرار في السلطة بموجب الدستور الذي لا يسمح له إلا بولايتين فقط.
والهدف الثاني: احكام السيطرة على المناطق المتنازع عليها وضمها إلى الإقليم لاسيما مدينة كركوك الغنية بالنفط التي تشكل الشريان الاقتصادي بالنسبة لإقليم كردستان.
أما الهدف الثالث: فهو تحويل إقليم كردستان إلى قاعدة أميركية إسرائيلية انطلاقا من رهانات البرزاني على دعم واشنطن وتل أبيب لخطوته الانفصالية باعتبارها تصب في مصلحتهما، وأن الولايات المتحدة سوف تضغط على تركيا لعدم السير بأي خطوة لفرض حصار على إقليم كردستان العراق استجابة لطلب الحكومة العراقية.
لكن كما هو واضح من خلال سير التطورات فإن حسابات حقل البرزاني لم تتطابق مع حسابات بيدره، وهذا ما تجلى بوضوح من خلال الوقائع التالية: الواقعة الأولى: أن إقدام القوات العراقية الاتحادية على استعادة كل المناطق المتنازع عليها، وخصوصا مدينة كركوك، لم يؤد إلى أي مواجهة عسكرية مع قوات البيشمركة الكردية بل كان هناك ما يشبه تسليم هذه القوات بسيطرة القوات العراقية وهو ما دفع البرزاني إلى اتهام أطراف كردية بالوقوف وراء ما حدث في كركوك، وطبعا يقصد هنا القوات التابعة لحزب الاتحاد الوطني التي كان يرأسها الرئيس الراحل جلال طالباني المعروف بخطه المعتدل.وهذا التطور يؤشر إلى أن خطوة البرزاني لم تكن تحظى بتأييد كل الأحزاب الكردية.
الواقعة الثانية: موقف الرئيس العراقي محمد فؤاد معصوم الذي قال إن إجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم أثار خلافات بين الإقليم والحكومة العراقية الاتحادية، وخلافات كردية كردية أفضت إلى إعادة سيطرة القوات الاتحادية على كركوك.
على أن الأهم كان دعوة المعصوم جميع أطراف الخلاف إلى العودة للحوار على أساس التمسك بالدستور والقانون ووحدة العراق، وتحذيره من أن استمرار الخلافات سيضر بالجميع ومستقبل العراق. وهذا الموقف من قبل الرئيس معصوم إنما هو بمثابة دعوة واضحة للبرزاني كي يتراجع عن نتائج الاستفتاء والعودة إلى الالتزام بالدستور وعدم الإقدام على خطوات أحادية الجانب.
الواقعة الثالثة: عدم إقدام أميركا وإسرائيل على اتخاذ أي خطوة عملية لدعم البرزاني في مواجهة عملية الحكومة العراقية في السيطرة على كركوك، أو الضغط على تركيا لمنعها من تسليم المعابر للحكومة العراقية وإقفال المجال الجوي مع اربيل، ففي حين التزمت الحكومة الإسرائيلية الصمت إزاء ما حصل، دعت واشنطن الطرفين إلى تجنب التصعيد وحل الخلافات عبر الحوار في إطار الدستور والتأكيد أن أميركا ما تزال تدعم عراقياً موحدا وأن الحوار هو أفضل خيار لنزع فتيل التوتر.
هذا الموقف من حلفاء البرزاني يؤكد ما قيل سابقا من أن اعتماد البرزاني على دعم واشنطن وتل أبيب لن يؤدي به سوى إلى الخيبة والمرارة لأنهما لن يذهبا إلى التورط في حرب إقليمية من أجله، وهما كانتا تستغلانه، فإذا نجح تكسبان وإذا فشل فإنهما تتجنبان التورط في نزاع سيؤدي إلى خسارة إسرائيل لحلفها المهم مع تركيا، في حين أن أميركا ستخسر أي تأثير لها في العراق، وتخسر أيضاً تركيا حليفتها الإستراتيجية. ولهذا كانت واشنطن تدعو في العلن البرزاني إلى تأجيل الاستفتاء والذهاب إلى الحوار مع الحكومة العراقية لأن ذلك يضمن لها استمرار نفوذها وتأثيرها داخل المؤسسات العراقية.
هكذا يمكن القول إن البرزاني وجد نفسه أمام حائط مسدود يواجه الانتحار إن هو أصر على مواصلة خطوته الانفصالية حتى لا يفقد دعم الأكراد له إن تراجع، فإقليم كردستان العراق من دون كركوك وفي ظل حصار من دول الجوار يصعب تصور إمكانية أن تقام فيه دولة كردية قابلة للحياة لاسيما وأن تركيا هي الرئة التي كان يتنفس منها إقليم كردستان، في حين أن كركوك كانت تشكل القلب الاقتصادي للإقليم الذي يعيش ويزدهر على موارد المدينة النفطية الهامة والتي كانت طوال المرحلة الماضية هي سبب تطور وازدهار أربيل وانتعاشها.
في الخلاصة إن النتيجة التي أدت إليها مغامرة البرزاني بالذهاب إلى الاستفتاء ومحاولة تنفيذ خطوة الاستقلال عن العراق هي عودة سيطرة الحكومة العراق على مواردها النفطية في شمال العراق والمعابر الحدودية وتكريس الشرخ بين بغداد وأربيل والانقسام الكردي الكردي، وتخلي أميركا وإسرائيل عن البرزاني وتركه يواجه مصيره وحيدا حتى لا تغرقا وتخسرا معه. وهذا درس جديد قديم لاستمرار الحزب الديمقراطي الكردستاني في السياسات الخاسرة التي جلبت الويلات للشعب الكردي والتي ارتكزت إلى الرهان على دعم أميركا وإسرائيل، المسبب الأساسي للأزمات والحروب والفوضى في كل المنطقة.